منبه.. معاناة وبؤس في اقصى الحدود اليمنية، وبن سوادة المحارب اليمني الأخير في مواجهة المد السعودي “تفاصيل ما يجري في الحدود اليمنية السعودية”
يمنات – الشارع – محمد مسعد
في الطريق الى محافظة صعدة, تبرز آثار الحرب شاخصة على جانبي الطريق كتحذير من عاقبة عودتها. بيوت طينية منخورة ومنازل اهترأت أعمدتها الإسمنتية والتوت الأسياخ الحديدة التي كانت تحملها, مدارس ومبان حكومية سقطت سقوفها على الأرض أشلاء.
كانت الوجهة منطقة حدودية في مديرية "منبه" حدثت فيها, مؤخراً, اشتباكات بين الجيش السعودي وقبيلة "آل الشيخ".
كنت أظن المنطقة لا تبعد كثيراً عن مركز المحافظة؛ لكنها كانت أبعد بكثير؛ إذ إن عليك أن تسافر إليها, من مركز المحافظة أكثر من ثماني ساعات بدون توقف.
وصلت مدينة صعدة في الخامسة من عصر الخميس الماضي, وبنصائح أكثر من شخص كان علي التوقف في أحد الفنادق حتى صبيحة اليوم التالي.
فزرة السيارات الى مديرية "منبه" تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن المدينة؛ إذ إنها تقع في الطرف الشمالي لمركز مديرية "ضحيان".
استيقظت, صباح الجمعة, قاصدا فرزة الباصات الى "ضحيان"؛ إلا أنها لم تعد في المكان الذي أرشدني إليه أحدهم مساء أمس.
كانت الشوارع مقطوعة؛ "لأن اليوم جمعة, في مظاهرة, والحوثيين يعملون حواجز ويمنعوا دخول السيارات", حسب صاحب الدراجة النارية, الذي أخذني على طرق ترابية جانبية حتى الفرزة التي نزحت الى خارج المدينة.
سائق الباص على الطريق الى "ضحيان" كان يردد ألحانا من "الزوامل" والأناشيد الحوثية, علة وقع الـmb3, أربعة الى خمسة أناشيد, تبعها الزامل الثوري المعروف: "ما نبالي… مانبالي …مانبالي يا زعيم المافيا والبلطجية".
أردت التأكد من معرفة السائق لذلك, وسألته عمن يتبع هذا الزامل. كان يدرك أنه "حق أهل صنعاء".
في الطرف الشمالي لسوق "ضحيان" تقع "فرزة منبه" ومنذ السابعة والنصف حتى العاشرة قبل الظهر, بقيت منتظرا أولى السيارات المسافرة.
أنا وآخران الى جوار السائق, وخمسة أفراد في المقعد الأوسط وفي المقعدين المتقابلين مؤخرة "الصالون" تزاحم ستة أفراد, لا جدوى من الاعتراض على السائق, الذي قال إنه متوقف في الفرزة منذ شهرين, في انتظار مسافرين, فما كنا ليتحرك لولا اكتظاظ سيارته, وما كنا سنحصل على بديل.
في البداية؛ كانت الطريق إسفلتية منبسطة. بعد بضعة كيلومترات شمالا على امتداد طريق "صعدة- ضحيان", انعطفنا ناحية الشرق, وسط مناطق مقفرة وتلال متفاوتة.
لا تزال الطريق حتى الآن مستوية؛ لكن الازدحام يجعلك تغير ميل وضعية جلوسك على إحدى جهتيك بين لحظة وأخرى, كما تتناوب مع الركاب جوارك على الاستناد الى مسند المقعد.
وصلنا الى "مثلث يسلم: سوق صغير, يصلك على الامتداد ذاته بمنفذ "علب" الحدودي. أما وأنت تقصد "منبه" فعليك الانعطاف جهة الشمال. ساعتين ونصف الساعة افضت بنا الى مركز مديرية "قطابر" الواقع تقريبا في منتصف الطريق الى :منبه". هناك تناولنا الغذاء واخذنا المدينة الشمالي يتوقف الخط الأسفلتي.
كنا قد ارتحنا قليلا من عناء الازدحام, لكن ارتجاج السيارة على الطريق الفرعية سرعان ما اعاد التعب, بل وبالغ فيه هذه المرة.
صعود جبلي حرج, على السائق أن يكون متيقظا لمجيء سيارة أخرى من الجهة المقابلة حتى ينتظر عبورها منزويا في متسع سوى لسيارة واحدة. صعود لا ينتهي, وارتكاز يصنع زاوية أقل قليلا من قائمة, توشك السيارة على الانكفاء الى الخلف, تتململ يمنيا ويسارا, وتتدافع للخلف والأمام, وتتقافز على الصخور, كل هذا مرة واحدة.
سلسلة جبلية متصلة بتموجات عميقة الغور وبالغة الارتفاع, صعود رأسي وانحدار حاد, ما إن تبلغ قمة حتى تنحدر منها, ولتصعد من جديد قمة أخرى.
توغلنا عرض الجبل قبل الاخير, تقعر في الجانب الغربي للجبل ينتهي بسائلة يجرى فيها الماء هابطا من التواء يخفي منبعه, توقف السائق ونزل الركاب, توضأنا في ماء السائلة وصلينا الظهر والعصر جمعاً, كانت منطقة "الشوذان". وكانت الساعة عندها الثانية والنصف بعد الظهر.
ساعة تفصلنا عن الوصول الى مديرية :منبه" المتربعة على الجبل المقابل . اجتزنا الجهة الأخرى من تقعر الجبل ثم انحدرنا الى الأسفل. في المنخفض, قبل أن نبدأ صعود جبل "منبه"؛ تقع نقطة للحوثيين, شعار "الصرخة" (الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الخ) على لوحة مقدمة النقطة, إضافة الى لوحة أخرى مكتوب عليها: "الترتيبات الأمنية لكم ليست عليكم" كما هي في كل النقاط التابعة للحوثي, ابتداء من منطقة "الحيرة" قبل انتهاء "حرف سفيان" التابعة لمحافظة عمران.
وصلنا الى "منبه", توقف السائق للتفتيش في نقطة تابعة للحوثيين, وسط "سوق الخميس" مركز المديرية, في السوق لم أجد سيارة متجهة الى "آل الشيخ" وجهتي المقصودة. رفض "سعيد فرحان" الذي كنت قد تعرفت إليه في السيارة وتشعب بيننا الحديث طيلة الرحلة, أن يذهب قبل أن أجد سيارة توصلني الى المنطقة.
كانت المسافة الى "آل الشيخ" أبعد مما توقعت. وبما أن المسافة تقاس هنا بالساعات, فهي تبعد ثلاث ساعات على سيارة لابد أن تكون "صالون" أو "شاص" لأن الطريق "جبلية وعرة", أكد "سعيد": "ضروري تستأجر سيارة؛ لأنك حتى ولو شفت سيارة لا هناك ما با تلقى سيارة تنقلك هناك بين المناطق.. قرى المنطقة متفرقة بين الجبال تجزع لما تتعب وما توصل وعاد المنطقة ذي تشتي تروحها أبعد من آل امشيخ.
دعاني الرجل لمواصلة المقيل والمبيت في منزله, فاعتذرت مصرا على مواصلة السفر. سألت "سعيد" عما أن كان يتوفر فندق في السوق, الشبيه بقرية بائسة, حتى نستريح قليلا في انتظار أن نجد سيارة, صحبني الى الفندق ذي الغرف الأربع مكسرة النوافذ والمفتقرة لأي هندام فندقي, موكيت متجعد يغطي نصف أرضية الغرفة, فرش هرم, متسخ ومهترئ الغطاء, عليه بطانية جمعت دون ترتيب في كل جهة, "كبس" الكهرباء منزوع, ولا يمكنني شحن تلفوني الذي فرغ سريعا بسبب البحث عن التغطية المعدمة.
احتججت على صاحب الفندق, فواجهني بسؤال: "أين الكهرباء؟!", تعتمد المديرية على مولد كهربائي يعمل بضع ساعات ليلا, ويغطي بعض مناطقها فقط.
ضروري تكسر أصنامهم!!
كنت متعبا من السفر الشاق, وقلقا بشأن المهمة, لم أكن أعرف, حتى تلك اللحظة, الى أين سأصل بالضبط وأي شخص سألتقيه عند وصولي منطقة "آل الشيخ".
بدأنا التقاط انفاسنا وتبادلنا الحديث, شكا "سعيد" تدني اجور "مجاميع قاتلوا مع الدولة ضد الحوثي: "المشايخ يسلمونا المعاشات ويأكلوها وما يدوا إلا 9 ألف ريال لكل واحد, وهو مقرر له من الدولة 24 ألف".
استأذن "سعيد" للمغادرة بعد أن فكرنا كثيراً في الأمر ولم نتوصل الى حل ممكن. اتفقنا أن يتصل بي إذا ما وجد سيارة, أو التقى شخصا من "آل الشيخ".
بعد دقائق, عاد الرجل متهللا بالبشارة: "شفت صاحب سيارة يعرف المنطقة كلها بايوصلك ويروح بك المكان اللي تشتيه.. ويجلس معك ما ترجعوا إلا وقد نجزت عملك.. اتفقنا تدفع له 600 ريال سعودي.
تبدت دهشتي من أجر السيارة الذي ظننته باهظا, ودافع الرجل عن معرفه: "أنت باتوصل المنطقة وباتعرف أن المبلغ قليل.. أنا أشتي أرد لك المعروف.. أنت ضيف وحملتنا في الطريق والمفروض كان نحملك احنا".
جهز السائق سيارته (شاص-94) أخرج من دكانه وسط السوق ثلاث "دباب" بنزين (سعة كل منها 20 لترا) عبأ الخزان الاحتياطي باثنين, ووضع الثالثة في صندوق السيارة. عندها توقعت أن المسافة بعيدة.
يحمل السائق اسم علي حسن سلمان, ينتهي بـ"المنبهي" شأن أهالي "منبه" الذين يقولون إنها يرجعون الى جدهم الأكبر: "منبه".
غرباً؛ اتجهنا على طريق جبلية أكثر وعورة, واصلنا صعود جبل "منبه" والتقفنا الى جهته الأخرى قبل أن نصل قمته, التي يجثو عليها "مجمع المديرية الحكومي" مدمرا منذ أن فجره الحوثيون بعد أن سيطروا على المديرية في الحرب السادسة, لاحقاً برر لي أحد الحوثيين تفجير المبنى بالقول إنه "لم يقدم أي خدمة للناس".
كان أحد الذين قاموا بالعملية, وعندها قلت له أن القصور كان في المسؤولين وليس في المبنى, وأنه كان بإمكانهم الحفاظ عليه, والبقاء فيه طالما أنهم قد سيطروا على المديرية, قال: "بايجلسوا يقولوا: سيطروا على المجمع الحكومي, ولا بايسكتوا؛ لكن فجره هكذا يكون عبرة للآخرين".
استمر النقاش بيننا, واستمر الرجل بتقديم المبررات: "إبراهيم لما كان قومه يعبدوا الأصنام كسرها, وهذي أصنام كانوا الناس يعبدونها.. ضروري تكسر أصنامهم".
حين سالته عن سبب عدم تفجير مجمعات بعض المديريات التي سيطروا عليها, صمت برهة, ثم استدرك: "قد السيد اخبر.. هذي أوامر". عندها التفت اليه صاحبه بجواره منبها, وخاطبني وهو بشير الى رأسه مبتسماً: "حسب جبريل".
التقيت الاثنين في مركز "منبه" بعد عودتي من "آل الشيخ" كانت سيارتهما على وشك الانطلاق الى صعده, استعجلت خطواتي خشية ان تتحرك, ولحق بي أحد الحوثيين المناوبين في نقطة السوق.
وكنت أخاطب السائق, حين وضع يده على حقيبتي: "أيش في داخلها؟ أفتح نفتشها". خاطبة الراكب الى جوار السائق: "خليه يطلع وقد احنا بانفتشها هنا", أخذ الراكب الحقيبة وبدأ تفتيشها, معلقا على استنكاري: "هذا ضروري, وإذا تشتي أنت فتشني".
كانت خزنتا بندقيتيها مغلقتين بملصق عليه أية قرآنية كتبت كلمتها الأولى بخط زخرفي واضح: "رجال" واسفل الملصق بقية الآية بخط عادي صغير: "صدقوا الله عليه", وهذه رأيتها على بندقية أكثر من مسلح منذ وصلت المحافظة.
كان الحوثيون محتفين بـ"أسبوع الشهيد", الذي يقيمونه كل عام. معظم السيارات هناك مزينة بأشرطة ورود بلاستكية, وعليها شعارات مختلفة تشيد بـ"الشهيد".
قال لي أحدهم إن الأسبوع بدأ يوم الأحد من الأسبوع الماضي, وانتهى الأحد الماضي, وأوضح شارحاً: "تقام فيه مهرجانات خطابية, وتنفذ زيارات لأسر الشهداء, وتسلم لها بعض المعونات".
الشعارات تغطي جدران المدينة وواجهات الشوارع والمحلات وعلى جوانب الطرق خارج مدن المحافظة: "الشهادة عطاء قابلة الله بعطاء", "الشهيد ضمن أنه في الجنة وضمن أنه نجا من سوء الحساب", "الشهيد حي منذ أن نفارق روحه جسده… الخ, وتتكرر كثيراً الآية القرآنية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون", لاحقاً, وأنا أتحدث الى أحد المواطنين", تندر معلقا على هذه الشعارات" . "قتلوا الناس وقالوا إنهم يحييوا!".
أجا الحوثي وأحنا مقعيين
قال أحد أهالي "منبه" إن "الحوثيين تميزوا, مؤخرا, بأن أصلحوا بين القبائل المتناحرة وأوقفوا الثأر وفرضوا الأمن في المناطق التي يسيطرون عليها" لكن الرجل لم يخف تطلعه لوجود دولة تقوم بواجباتها: "صح, حتى لما كانت الدولة موجودة كانوا الناس يتقاتلوا وهي ما تتكلم؛ لكن يا أخي يقولوا: "شبر مع الدولة ولا ذرع مع القبيلي, الحوثي بايدي لي حتى 100 ألف مرة واحدة, لكن الدولة باتدي لي معاش واصل حتى لو هو قليل, وباتدي طرق وخدمات.. ولو تصلح وما يكون فيها فاسدين باتكون أحسن زيادة".
أما أحد أهالي "جبل العر" وهو من "آل محمد" التي كانت تقتتل إن "طقم الدولة كان في المجمع يتفرج علينا واحنا نقتت, ولما جوا الحوثيين اتفقنا مع آل كثير, وقلنا: "الحوثي عدونا الأول, وقاتلنا مع الدولة 6 سنين.. وفلتت لنا الدولة نتقاتل بيننا من جديد". وحين سألته عما إذا استمروا في قتال الحوثي؛ أجابني: "مع من نقاتل", مع الطير؟!!
خلاص جا الحوثي واصلح بيننا.. بيني وبينك جا الحوثي: وجئت على قدر يا موسى.. جاء أصلح بيننا وقد أحنا مقعيين" قالها الرجل وفتح فاه بأقصى ما أمكنه.
إلا أن هناك خلافاً لا يوال الرجل متمسكاً به: "احنا في العقيدة ما نتفق معهم.. احنا زيود, وما نشوف المخالفة اللي يقولها على السنة.. احنا معهم انهم عندهم عدل واصلحوا بين الناس".
وصلنا "الحيادين" في السابعة والنصف مساء, بعد 3 ساعات سير, كانت الطريق جبلية, تخللتها أمطار وسيول.
سور يحيط بمستشفى ريفي والى اليمين بقالة ومطعم في مبنى قديم, أخبرنا أحدهم أن "الشيخ جبران في صعدة.. بانعطيكم رقمه تتصلوا عليه وهو بايخلي واحد يستقبلكم ويعلمكم بالمنطقة". إلا أن الشيخ كان قادما في الطريق, وكان علينا انتظاره في نفس المكان.
اقترح "علي" (سائق السيارة) أن ننزل للعشاء, كان المطر متواصلا؛ ولكن بشكل أخف, نزلنا للعشاء في المطعم الوحيد هنا, كون المنطقة تُمثل إحدى طرق التهريب, يجلس الزبائن خارج المطعم, الذي لا يتسع لغير الطباخ, كان "الطربال" مخرقاً تعرضنا تحته الى قطرات مطر متسربة, لهذا استعجلنا في تناول الفول وقطعتي الخبز, اللتين كانتا عجينتين حقيقيتين, إلا أننا دفعنا 1500 ريال لصاحب المطعم ثمن الإسهال الذي سبتتاه لنا.
"بن سوادة ما بايعيش الا رافع رأسه"
وصل الشيخ جبران الساعة الحادية عشرة ليلا. ثلاث سيارات يحملن "دقيق ورز من الدولة حقنا الله يحفظها", قال الشيخ جبران, الذي وجدته خلافا لما تخيلته وأنا أسمع حديث الناس عنه, في منبه؛ اخبرني يحيى العليلي أن الشيخ, جبران بن سوادة, هو الذي يرفض أن يقيم السعوديون مراكزهم العسكرية في المنطقة الحدودية, أرشدني الى الذهاب إليه لأنه "الكل بالكل في منطقة آل الشيخ".
اتصل بنا أحد رفاق الشيخ, وهم يعبرون أمامنا بالسيارات الثلاث, طالبا منا اتباعهم نحو منزل الشيخ سوادة, "سائلة" واسعة تحفها أشجار حراشية وبضع نخلات, هي ما بقيت في الوادي الذي كان ممتلئا بالنخيل, كان السيل قد ألحق أضراره بالطريق, توقفوا لردم الحفر التي أحدثها السيل حتى تعبر السيارات, نزل شيخ يتوكا على عصاه, ماكنت حتى لأظن أن هذا الشيخ محني الظهر ومتأؤد الخطى, هو الشخص الذي نطلبه.
كان علي قد أخبرني أن الشيخ جبران بن سوادة متقدم في السن, ولكنني لم أتوقع أن يكون بهذا الهرم, وعلى الهالة التي رسمها في خيالي حديث الناس لم أتوقعه بهذه البساطة, يرتدي الزي العادي لأبناء المنطقة: "شميز بسيط وفوطة مثبتة بحزام عليه سكين من نوع خاص غمد مائل يشبه "التوزة" التي يعتمرها القضاة التقليديون ".
يسير بن سوادة في عامه الـ85 ولا يملك سيارة خاصة, كانت السيارات الثلاث تابعة لأصحاب من أهالي المنطقة, وباعتزاز عال قال لي: "بعض الأحيان يجي يوم الأحد (يوم خاص بالتسوق هناك) وما معي مصروف. أسوق (ابيع) من الغنم وأجر لي مصروف".
نصف ساعة قطعناها للوصول الى بيت "بن سوادة" كما يحب أن يدعو نفسه: "بن سوادة ما با يعيش الا راف رأسه", تبين أنه قد تحول عن هذا البيت, الذي كان يسكنه (أيام الخوف.. أيام ما كنا نتحارب مع السعوديين.. جلسنا 35 سنة في حرب على الحدود.. لما جاءت دولتنا وقبلت بالترسيم مع السعوديين".
أفرغت السيارات حمولتها في هذا البيت, الذي تحول عنه بن سوادة منذ ترسيم الحدود عام 2000, أنصرف أصحاب السيارات, وصعد الشيخ جبران على سيارتنا لنتقدم حوالي كيلومترا باتجاه الغرب, أوقفنا السيارة؛ حيث انقطعت طريقها على تلة مقابلة لأخرى يقع عليها مسكن الرجل.
أعطاني بن سوادة بندقيته "الجرمل" وأخذ يتحسس الطريق بعصاه, أما علي سلمان فكان يحمل بندقيته في يد, وفي الأخرى كشافاً ضوئيا, انزلقنا من التبة وعبرنا مدرجات جبلية ينتهي طرفها ببيت الشيخ جبران, وعلى عكس البيت السابق يقع هذا البيت مكشوفا من الجنوب لجبل قيس "السعودي" الذي تظهر البيوت السعودية على قمته متوهجة بأضواء تظهر الكهرباء.
اكواخ بسيطة تحوطها أحواش الأبقار والغنم, وفي الأسفل تنحدر "السائلة" محفوفة بأشجار كبيرة كوخ مفتوح من جهة الشمال والجنوب, نمت وعلي سلمان على ذينك السريرين, فيما أحد أبناء الشيخ نائما على سرير آخر خارج الكوخ.
سالت الشيخ جبران عن حقيقة ما جرى من اشتباكات بين قبيلته وبين الجيش السعودي, فاكد: " السعوديين كانوا يشتوا يبنوا مركز عسكري فوقنا ومنعوهم الرجال.. رموا على معداتهم ردوا علينا برشاشات".
قال إن اتفاقية ترسيم الحدود نصت على عدم بناء أي مركز عسكري, من قبل الجانبين, إلا بعد مسافة 5 كيلومترات من علامات ترسيم الحدود.
وأخرج الشيخ التسعيني صورة يحتفظ بها لاتفاقيتي الطائف وجدة لترسيم الحدود بين اليمن والسعودية, كانت الاتفاقية مطوية ضمن أوراق في ظرف أخرجه من مخبأ ما, ورماه لي لتأكيد ما قال, أخرجت صورة اتفاقية جدة وقرأتها, فوجدت ما قال: ووجدت أيضا أن الفقرة (أ) من المادة الأولى الملحق رقم 4 من الاتفاقية تنص على: "تحدد منطقة الرعي على جانبي الجزء الثاني من خط الحدود المشار إليه في هذه المعاهدة بعشرين كم", ونصت الفقرة (ب) من المادة نفسها انه: "يحق للرعاة من البلدين استخدام مناطق الرعي ومصادر المياه على جانبي هذا الجزء الحدود استنادا الى التقاليد والأعراف القبلية السائدة لمسافة لا تزيد عن عشرين كم".
تحدث اهالي المنطقة عن ماسيهم مع الممارسات الجديدة التي تقوم بها السعودية. حسن خالف قال إن إحدى أغنامه تجاوزت العلامات بأمتار قليلة, "ولحقت بعدها.. أخذوني وصدروني من مركز حرض", أخر قال: "إن أكثر من مائة رأس من الأغنام تمت مصادرتها عليه من قبل حرس الحدود السعودية.
بن سوادة, الشيخ منحني الظهر, الشامخ قال إنه لا يطلب "السعوديين شيئا غير الالتزام الاتفاقية": "ابغى الاتفاقية.. أنا عمك.. دعوة بن سوادة في عشرين كيلو للرعاة, وخمسة كيلو تشتل (ترفع) المراكز (العسكرية السعودية) وإلا يقع ذي يقع.. السعوديين قطعوا الرحم.. من طلع قالوا هي.. ومن رجع قالوا هي".
بدا الشيخ معتزا بيمنيه رغم كل ما يدفعه ثمنا لذلك الاعتزاز, في الليل تبدو القرى السعودية مدناً رئيسية, وهي تتلألأ مطلة على الجبال المحيطة بمنطقة "آل الشيخ" التي يتزعمها بن سوادة, وفي الصباح ترى القرى السعودية قصورا بيضاء في حين لا تكاد تلمح أحد الأكواخ القريبة منك لأهالي "آل الشيخ" لخص هذا أحد أبناء المنطقة, "هم في النور واحنا في الظلام.. هم في قصور واحنا في عشش.. هم في أخر موديل واحنا فوق حمير".
اما بن سوادة, هذا الشيخ الذي يشعرك أنك أمام صخرة شامخة, فلم يذكر من هذا شيئاً: "احنا معنا دولتنا, وهم كل شيء.. جاؤوا وقالوا بايعطوك 200 ألف سعودي, ويعطوك راتب وفك مؤبد (تصريح لدخول السعودية) بس تبصم على الاتفاق, وتسمح لهم يشقوا طريق ويبنوا مركز".
كان الوسيط في محاولة إقناع الشيخ بالسماح للسعوديين في شق طريق وبناء مركز عسكري, هو ابن أخت بن سوادة: "جاني وقال لي: فرصة ياخال.. با يعطوك اللي تشتيه", يعف بن سوادة عن الإغراءات السعودية, ويقاوم استخفافها بشموخ ما بقى من النخل في وادي منطقته.
يتذمر بن سواده حتى من أحد أبنائه, أحدهم يعمل تاجرا للعسل في السعودية, "خليه يتبع بعد امقوالز (علب العسل) ما همهم حدود ولا شيء".
شكا الرجل, الطاعن في السن والشموخ, تنصل الدولة عن مهامها, حتى بعد أن فرطت بالحدود التي مازال يتذكر قتاله الطويل عنها: "قاتلنا عليها 35 سنة. ورحوا فيها رجال, ولما وقعت دولتنا قلنا: خلاص ما باتقاتل دولتنا, وما عاد نبغى إلا الاتفاقية. هم ذلحين يرمون علينا برشاشات ومعهم في المراكز مدافع واحنا ما به معنا الا بنادق ما تسوي شيء".
منطقة "آل الشيخ" ومناطق مجاورة, لم يصلها الحوثيين, ولا يقع تحت سيطرتهم حتى الآن, لكن الشيخ جبران قال إنه قد يحتاجهم إذا لم تقف معه الدولة في إيقاف الخروقات السعودية, لأنه لا يستطيع وحدة أن يقاوم السعوديين: "ما نقدر وحدنا نواجه السعودية لو قامت حرب, لكن ذلحين عاد احنا بانقاوم.. لما اترامينا معهم اتصلوا بي من صعدة, وقالوا بايجوا, وقلت لهم: "لا, أنا بادعيكم لو احتجت لكم, لي منبه ورجال منبه.. ما بايبنوا السعوديين مركز فوق رأسي.. فذه جبل فوق غمر ورازح ومنبه, ولو مسكوه السعوديين بايسيطروا على الثلاث المديريات كلها".
تبين لي سبب حرص الرجل على عدم السماح للسعوديين بشق طريق, وبناء مركز على هذا الجبل بالذات, رغم أنه قد تم بناء عدة مراكز عسكرية سعودية على جبال أخرى في المنطقة ذاتها.
يقاوم بن سوادة الخروقات السعودية بمقتلتي قبيلته, التي قال أحد أبنائها إن فيها نحو 3 آلاف مقاتل. ورفض أهالي هذه القبيلة, وقبائل مجاوزة لها, دخول جماعة الحوثي الى مناطقهم.
لا يعتمد نجاح السعوديين في مخالفة اتفاقية ترسيم الحدود على قبل الشيخ جبران إلا على منطقة محددة, أما في مناطق كثيرة فقد تم شق الطريق, وبناء مراكز عسكرية جوار العلامات الحدودية باتفاق بين السعودية ومشايخ الدقيق", كما يسميهم الشيخ جبران, في إشارة الى تسليمهم من السعودية أكياس دقيق ومبالغ معينة.
تخبرني الكثير من الناس هنا أن الشيخ جبران هو الوحيد الذي يقف في وجه السعودية, ويرفض إغراءاتها "والناس واقفين معه ويحبوه".
ويؤكد كثير من الأهالي أن العديد من المشائخ قبلوا بمخالفات السعودية التي أضرت بسكان المنطقة خصوصا وهم يعتمدون على الرعي. "احنا ما في معنا دولة والا ما باتخالف السعودية للاتفاق حتى لو وافقوا بعض المشايخ بفلوس".
سألت الشيخ جبران عما ان كان يتذكر الحدود القديمة بين الدولتين, فقال في المنطقة كلها نسير ونجي عند بعض.. والآن في قبائل داخل السعودية شيخهم هنا في منطقة جنبنا.
ديك الشيخ
كانت الساعة تمام الثانية عشرة ليلاً, حين استلقيت على أحد الأسرة في كوخ بن سوادة. كان المطر قد أضر حتى ببيت الدجاج فغادره أحد الديكة ليبيت تحت السرير الذي أنام عليه.
تمام الثانية ليلا بدا الديك صياحه من تحتي. كانت المنطقة خالية من أي صخب, وكان صوت الديك قويا يملا الوادي, غرست رأسي في الوسادة, ووضعت اصابعي في اذني, وكان صوته جارحا يخترق كل العوائق , أكثر من مرة ضربت بيدي على السرير ونهرته, لكنه ديك الشيخ الذي وقف في وجه السعودية, ولن تثنيه محاولاتي عن ممارسة هوايته الأفضل, صببت عليه ماء من القنينة التي كانت بجانبي فصمت برهة, وانتفض ثم تابع اصواته, كما لو أنه يسدد ما سكت عنها, أمضيت الليلة مفكرا بطريقة للتخلص من هذا الديك, ومتفننا بابتكار أساليب مناسبة لإسكاته حتى جاء الشيخ جبران بإناء: "ماء توضأ وتصلي وبادي القهوة ذلحين".
كان علي سلمان يدخن سيجارة عندما التفت الى مغتبطا بنجاته مما قاسيته طيلة الليل, "طلع ابن الشيخ جبران السطح وأنا رقدت مكانه", أخبرني وهو يبتسم ويذكرني بمحاولاتي البائسة في إسكات الديك.
أحضر بن سوادة القهوة وجلسنا في مقدمة الكوخ نتبادل الحديث حتى حضر الصبوح, خبزا ساخناً, وصحنة مليئة بالسمن البلدي.
على الحدود يقاوم بن سوادة بناء المراكز العسكرية السعودية فيها
كان الشيخ مستعدا للذهاب معنا لكنه اعتذر, بعد أن جاءه أحد أهالي المنطقة وكان من الضروري عليه أن يجلس معه. أخبرنا أن علينا أن نتجه الى منطقة "عوجبة" التي يعرفها علي سلمان, وأكد لنا: "هناك يمشي معكم مجموعة من العيال ويأخذهم للمنطقة اللي اشتبكوا فيها".
عندما ودعناه خاطبني: "ناشدتك في 5 كليو وناشدتك في 20 كيلو", في إشارة الى تمسكه بالتزام السعودية بعدم بناء مراكز عسكرية داخل 5 كم من الحدود, والسماح للرعاة في الرعي داخل 20 كم, وجه الى كلامه هذا كما لو إن بيدي الأمر, لكنه لرجل يبحث عن مساندة أي يمني.
بعد ساعتين, في الطريق الى "عوجبة" أوقفتنا الصخور وثلمات الطريق التي احدثها سيل البارحة, كان الى يميننا ينتصب جبل "المشرق" الذي شهد في أخر تسعينيات القرن الماضي اشتباكات قوية "بين اليمن والسعودية بسبب الاختلاف على الحدود".
لم نتمكن من الوصول الى جبل فذه, الذي وقعت فيه, الأسبوع قبل الماضي, اشتباكات بين حرس الحدود السعودي, وقبائل "آل الشيخ" بسبب بدء الجانب السعودي بشق طريق بالقرب من علامات الحدود من أجل بناء مركز عسكري جديد.
تمكن بن سوادة, ورجاله, من إيقاف عمل السلطات السعودية في شق الطريق, وبناء المراكز العسكرية, غير أن ذلك لا يعني أن المحاولة السعودية ستقف عند هذا الأمر.
يقع جبل "المشرق" شمال جبل "فذه" وخلف هذا الجبل الأخير يقع جبل قيس السعودي, أدى استقطاع السعودية للأراضي اليمنية, منذ اتفاقية الطائف, الى جعل منبه تبدو كما لو أنها داخلة في الأراضي السعودية, ولا ترتبط منطقة "آل الشيخ" باليمن إلا من جهة الشرق فقط, وإجمالا لا ترتبط منبه باليمن إلا من جهتي الشرق والجنوب.
في ناصية جبل "المشرق" تقع إحدى العلامات الحدودية, يعتليها بعدة أمتار مركز عسكري سعودي, غيرنا اتجاهنا الى "المشرق" على طريق وعرة, قال علي إنه لم يتم تسويتها منذ أن شقت أيام الحمدي, توقفت السيارة أسفل الجبل, وكان علينا أن نبلغ الجبل على أقدامنا, يرافقنا يحيى ومحيي الشيخي, لأنكم آتيين من عند الشيخ جبران".
تبعد كل علامة حدودية عن الأخرى مسافة تزيد عن كيلومتر واحد, وهي علامات إسمنتية يحيطها أربعة يخات حدودية, اتهم الشابان, اللذان رافقانا السعودية بتجاوز الحدود بين العلامات," تشوف هذا الجبل خلفه أيضا علامة تجي لها من طريق ثانية وهذا الخط السعودي اللي تشوفه قدوا داخل عيها.
بلغنا إحدى علامات الحدود بعد نصف ساعة من العرق. كانت الطريق التي شقتها السلطات السعودية, تقع خلف هذه العلامة الحدودية مباشرة, بعدة امتار, تصل الطريق الى مركز عسكري سعودي استحدث, بالمخالفة لاتفاقية ترسيم الحدود, في قمة الجبل الذي يقع عليه العلامة مباشرة, وكنا على مرمى حجر من المركز.
شبكة طرق تصل المراكز العسكرية السعودية المطلة على أكثر من جبل. وتمكنت السعودية من شراء سكوت بعض المشائخ القبائل اليمنية لشق هذه الطريق, وبناء مراكزها العسكرية.
كانت سيارات حرس الحد السعودية أمامنا, "لكنهم ما بايرموا هم ذلحين, يشوفوا اننا معنا بنادق بانرد عليهم.. بعض الأحيان يوقفوا الناس اللي ما يعوفوا العلامات اين هي وعادهم تحت".
قال يحيى المنبهي, اذي سخر حين أخبره علي يلمان مازحا بأني مُكلف من قبل الدولة لمشاهدة المراكز العسكرية السعودية؛ من أجل إجبارها على التراجع 5كم حسب الاتفاقية: "هذا حلم نقول للسعوديين لا دخلت حقنا الغنم ومنعونا نتابعها: "باقي عشرين كيلو مسموح لنا, ويقولوا: "عاد احنا بانمنعكم عشرين كيلو داخل اليمن".